اسلوب فخم متين النسج جاء به في طوره الأول في الأكثر وخص به قصائده في الحكمة والرثاء والفخر ، ثم أسلوب لين سلس جاء به في القصائد التي طواها على أغراضه الوجدانية والخيالية. وكان من الطبيعي أن تضم قصائده التي على الأسلوب الأول الفاظاً جزلة والفاظاً غريبة وأن تكون متخيرة تدل على إحاطة بالقاموس العربي إلى حد كبير.
والشابي كأمثاله من الناقمين على عمود الشعر العربي ، وعلى الحياة العربية الأصلية ، أراد أن يتجنب الألفاظ الإسلامية النفحه العربية الملامح ليتبدل بها ألفاظاً وثنية الأصل عامية الاستعمال ، وخصوصاً في طوره المتأخر.
وتراكيب الشابي كالفاظة تجري مجريين: مجرى أساليب العرب ومجرى آخر كثير التحرر والانفلات من أساليب العرب يجب أن يكون التركيب صحيحاً متيناً. ونعني بالتركيب الصحيح أن تجري الجملة على أساليب العرب في الترتيب ووجوب التقديم والتأخير أو جوازهما وفي الاضمار وما إلى ذلك.
الشابي خيالي التفكير خيالي التعبير يبحث عن مثل أعلى من صنع هذا الخيال فلا يجده في العالم الذي يعيش فيه فينقلب شاكياً باكياً ثم تصطبغ آراؤه وتعابيره بالأسى والحزن والكآبة والوجوم. وقد لاحظ زين العابدين السنوسي يوم كان عمر الشابي خمسة عشر عاماً أن الشابي قد امتلك ناصية الخيال ورغم انه سكت عن الخيال عند الشابي بعد ثلاثين عام وذلك في كتابة " ابو القاسم الشابي " لكنه يخبرنا " أن التصور عند الشابي قد كان صادقاً حقيقاً لمن عاشرهم وسكنوا نفسه وانطبعوا في روحه وهي اشباح لأناس حقيقياً لا خياليين فما كان ابوه رمزاً خيالياً ولا كانت عشيرة صباه بجنة شاعر أو حلم كاذب. وكان للشابي خيال مولد موغل في الغرابة يصطنع من الأمور العادية مشاهد وقصصاً. ونحن عادة لا نقدر الأخيلة بما فيها من المادة بل بما فيها من الصور وبالقران الذي بين تلك الصور.
ونجد الجد يغلب على ديوان الشابي ولا ريب في ان اتجاه الرجل كان جدياً حزيناً ولكن يبدو أن الشابي كان في أيام تلمذته قبل ان يعلم مرضه أو قبل أن يدرك خطورة مرضه يميل إلى الهزل والمعابثة ككل شاعر آخر أو ككل أنسان في صباه.
نلاحظ أن ما أثار وطنية الشابي بالدرجة الأولى هي اصطدامه بالرجعية، ووطنيته وطنية جد صارخة ذات هجمات نارية عاتية مدمرة، ولكن لم تكن موجهة للاستعمار بقدر ما هي موجهة لسلاحه الرجعية التي حبست أنفاس الشعب .
الطبيعة:
حين نتأمل شعر الشابي في ذكره للطبيعة فهو ينظر إليها بعاطفة رفيعة تنبعث من مشاركته لظواهرها والاندماج معها، حتى يصل إلى حد الموت الفاني في جمالها .
الـمـرأة:
من خلال شعر الشابي الذي يتشوق فيه إلى المثالية المرضية لطموحه ويشبع روحه و الشعر الذي قاله في المرأة لا نستطيع أن نجد فيه على أمراه معينة، لها شخصيتها و طبائعها و مزاياها التي تتفرد بها، ونحن نلاحظ أن شعر الشابي صادر عن نفسه المحرومة وكان يتغنى في المرأة كمثل أعلى.
الشابي والألم
يرى الكاتب علاء الدين حسن أن الألم الذي يقطر في كثير من قصائد أبو القاسم الشابي، إنما هو نتيجة لخوفه من الموت، فلقد كان يراه شبحاً لا يبقي على شيء من آمال، ولعله كان يحسب أن حياته المثالية ستستمر طويلاً، فإذا بها تتحول الى ألم وشقاء، ومن يقرأ شعر الشابي يجد أنه يدعو إلى تأمل النفس وحب الطبيعة، فقد كان عميق الإحساس بما يحيط به.
ليت لي أن أعيش في هذه الدنيا سعيدا بوحدتي وانفرادي أتغنى مع البلابل في الغاب وأصغي الى خرير الوادي
وأكثر ما تتمثل الطبيعة في قصيدته وأغاني الرعاة:
أقبل الصبح يغني للحياة الناعسة والربى تحلم في ظل الغصون اليابسة
وهو الصادح عبر أشعة الشمس:
سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء
قد مد الشابي بينه وبين الطبيعة كل أسباب التواصل، بشفافية نفس تتفاعل مع الجمال. عاش مع الأشجار وبين الجبال وراح ينادي:
اسكني يا جراح واسكتي يا شجون مات عهد النواح وزمان الجنون
ومما زاد من توهج جمال الطبيعة في عينيه، اطلاعه على أشعار الرومانسيين الأوروبيين أمثال: لا مرتين وبيرون.. وإعجابه بشعراء المهجر أمثال: جبران وأبي ماضي .. .
تعلق الشابي بالمرأة ليس قائما على المحاسن الجسدية، بل كان منصرفا الى مافي جوانحها من معاني العطف والمحبة، ومن رائعته هيكل الحب أنت فوق الخيال والشعر والفن والنهى وفوق الحدود.
الشرارة الأولى في وطنية الشابي اندلعت من اصطدامه بالواقع المتخلف:
خُلقت، طليقا كطيف النسيم وحرا كنور الضحى في سماه فما لك ترضى بذل القيود وتحني لمن كبَّلوك الجباه؟
ولعل الإنصاف في شأن الشابي كما يذهب عمر فروخ أن يقال إنه شاعر جاء في مقدمة الشعراء المعاصرين الذين التزموا عمود الشعر العربي. ولا نغالي حسب الدكتور عباس جرادي إذا قلنا إن الشابي مدرسة في الشعر العربي العربي أساسها أدب إنساني يصل الى أعماق الحياة.
الحب في حياة الشابي
شغل الشابي بالمرأة فكانت كما يخبرنا زين العابدين السنوسي جحيمه ونعيمه فغنى بها على كل ريح، فمع أن الشابي أقنع نفسه بالزواج مرضاة لوالده ثم رزق من زواجه هذا بولدين فإن سلوك الشابي العاطفي كما نرى من شعره لايدل على أن الشابي كان سعيداً في حياته الزوجية، هذه الحياة لم تستطيع أن تهب الشابي الاطمئنان الذي ينعم به الانسان عادةً فاندفع ولم يمض عاماً واحداً على زواجه في تطلب سعادة موهومة في حب فتاة ظن فيها تحقيقاً لأحلامه ولكن هذه الفتاة التي أحبها الشابي في إبان طفولته على الأصح ماتت وشيكاً، فأذكى موتها في نفسه الأسى على حاله والنقمة على حوادث الدهر ، ثم انتقل بعدها من حب لحب .
نسمه حب ادارة عروبتنا
موضوع: رد: أبو القاسم الشابي 15.04.10 10:54
الشابي والموت
كان الموت من أهم التجارب في حياة الشابي، ذلك أنه أحسه في أقرب الناس إليه، وفي فترة باكرة من حياته. ففقد في أول حياته الفتاة، التي أحبها. وقال فيها:
بالأمس قد كانت حـياتي كالسـماء الباسـمةْ واليوم قد أمست كأعماق الكهـوف الواجـمةْ قد كان لي ما بين أحلامـي الجميـلة جـدول يجري به مــاء المحبّة طاهـراً يتسلـسـل جدول قد فجّـرت ينبـوعـه في مهجـي أجفان فاتنة أرتنـيها الحـيـاة لـشقـوتـي أجفان فاتنة تراءت لـي علـى فجر الشبـاب كعروسة من غانيات الشعر في شفق السحاب ثم اختفت خلف السماء وراء هاتيـك الغيـوم حيث العذارى الخالدات يمسن ما بيـن النجوم ثـم اختـفـت أواه! طائرة بـأجنحة المنـون نحو السماء وها أنا في الأرض تمثال الشجون!
ويبدو أن هذه الصدمة (موت الفتاة التي أحبها)، أساءت أبلغ الإساءة إلى مصيره كله، فاضطر أهله إلى "تزويجه" في سن مبكرة لينصرف عن أوهامه وتأملاته الحزينة، ويسلو آلامه، وقَبِلَ هذا "الحل" لمشكلة حبه. ولكن المشكلة كانت تزداد في نفسه تعقيداً، فلم يهنأ بزواجه، ولا وفق إلى سلوان عذابه!؛ ثم فاجأه الموت ثانية بفقد أبيه، وتحولت التبعات التي كان يحملها أبوه إلى كاهله، فأثقلته، وهو الذي كان ينوء بما يحمل، فرزح، واعتلت صحته، وأصيب ـ كما قرر أطباؤه ـ بانتفاخ في القلب، جعله يتنقل من مكان إلى مكان، طلباً للشفاء.
مرضه ووفاته
يبدو أن الشابي كان يعلم على أثر تخرجه في الزيتونة أو قبلها بقليل أن قلبه مريض ولكن أعراض الداء لم تظهر عليه واضحه إلا في عام 1929 وكان والده يريده أن يتزوج . يبدو أن الشابي كان مصاباً بالقلاب منذ نشأته وأنه كان يشكو انتفاخاً وتفتحاً في قلبه ولكن حالته ازدادت سوءاً فيما بعد بعوامل متعددة منها التطور الطبيعي للمرض بعامل الزمن والشابي كان في الأصل ضعيف البنية ومنها أحوال الحياة التي تقلّب فيها طفلاً ومنها الأحوال السيئة التي كانت تحيط بالطلاب عامة في مدارس السكنى التابعة للزيتونة.
ومنها الصدمة التي تلقاها بموت محبوبتة الصغيرة ومنها فوق ذلك إهماله لنصيحة الأطباء في الاعتدال في حياته البدنية والفكرية ومنها أيضاً زواجه فيما بعد.لم يآتمر الشابي من نصحية الأطباء إلا بترك الجري والقفز وتسلق الجبال والسياحة .
ثم دخل الشابي مستشفى الطليان في العاصمة التونسية في اليوم الثالث من شهر اكتوبر قبل وفاته بستة أيام ، وتوفي في المستشفى في التاسع من اكتوبر من عام 1934 فجراً في الساعة الرابعة من صباح يوم الأثنين الموافق لليوم الأول من رجب سنة 1353هـ.
ومن كلماته
إذا الشعب يوماً أراد الحيـاة فلا بدّ أن يستجيب القدر ولا بدّ للــــيل أن ينجلـــي ولا بدّ للقيد أن ينكسـر ومن لم يُعانــقه شوق الحيــاة تبخّر في جوّهـا واندثــر
فويلٌ لمن لم تشُقْه الحيـــاة من صفعة العدم المنتصــر
كذلك قالـت لي الكائنـــــات وحدّثني روحهـا المستتــر