في مئوية أشهر زعماء مصر .. مصطفى كامل
مصطفى كامل بريشة فنية
محيط - شيرين صبحي
"إن من يتسامح في حقوق بلاده ولو مرة واحدة يبقي أبد الدهر مزعزع العقيدة..
سقيم الوجدان".. هكذا كانت رؤيته، كانت قوة روحه أكبر من طاقة جسده
فملأ الدنيا ضجيجا حتى علمت بقضيته..
في 14 من أغسطس 1874م ولد مصطفى كامل لأب يعمل ضباط بالجيش
المصري، وقد رُزِقَ بابنه مصطفى وهو في الستين من عمره.
تلقى تعليمه الابتدائي في ثلاث مدارس، ثم التحق بالمدرسة الخديوية وفيها أسس
جماعة أدبية وطنية كان يخطب من خلالها في زملائه، وحصل على الثانوية
وهو في السادسة عشرة من عمره.
التحق بمدرسة الحقوق سنة 1891م وأتقن اللغة الفرنسية، والتحق بجمعيتين
وطنيتين، ثم تنقل بين عدد من الجمعيات.
بعد عامين ترك مصر ليلتحق بمدرسة الحقوق الفرنسية، ثم التحق بعد عام بكلية
حقوق "طولوز"، واستطاع أن يحصل منها على شهادة الحقوق،
وكتب في تلك الفترة مسرحية "فتح الأندلس" التي تعتبر أول مسرحية مصرية.
بعد عودته إلي مصر رفض الوظيفة الحكومية التي كانت في رأيه ستضعه تحت
سيطرة الاحتلال البريطاني، وبدأ حياته العملية كمحامي مبتديء.
لمع اسمه في بلاط صاحبة الجلالة، واستطاع أن يتعرف على بعض رجال الثقافة
والفكر في فرنسا، وازدادت شهرته مع هجوم الصحافة البريطانية عليه.
بين الديني والوطني
عباس حلمي الثاني
في 13 أبريل عام 1895 سافر مصطفي كامل للدعوة للقضية المصرية علي
نفقة الخديوي عباس حلمي الثاني وكان حينها عمره 21 عاماً.
ووفق كتاب د محمد أنيس " صفحات مطوية من حياة الزعيم مصطفى كامل
" نقرأ : " ولما علم بسعي البعض لدي الخديوي لارجاعه اجابه لطلب جافيو
ودلونكل أرسل إلي عبد الرحيم أحمد بتاريخ 4 اغسطس 1895 رسالة يقول فيها:
أخبركم أن من طباعي وربما عرفتم ذلك في أني حر فوق مرتبة الأحرار لا أخالف
ما تأمرني به سريرتي ولا تأمرني كما تعلمون الا بما فيه رعاية مصلحة العزيز
والوطن المحبوب وما فيه الذمة والشرف. وآسفاه عليك يا مصر التعيسة –
وآسفاه علي فتاك الذي تغرب عنك لاسعافك ونصرتك معتمدا علي كل من في قلبه
ذرة من الوطنية فاذا ما وصل هذه الديار وابتدأ في خدمة الأوطان قامت هذه
الخصوم وبعض الأحباء ودست له الدسائس ولم يجد له إلا في شخص الأمير أعزه
الله عضدا ونضيرا – أي وطني يوافق علي رجوعي بعد أن صرت للانكليز العدو
الآلد والخصم الأشد وأي يأس يستولي علي المصريين الذين لا يعلمون يومئذ سبب
رجوعي " .
وبنفس الخطاب يقول:
" افيدكم انه لابد لي من سياحة في برلين وبطرسبورج وقد أخبرتكم في خطابي
الذي أرسلته من فينا أن ما لدي من النقود لا يكفيني الا لآخر سبتمبر ولعلكم لا
تستغربوا من ذلك وأنتم تعلمون أني أصرف كثيرا جدا في الولائم الخصوصية
والهدايا العاملان الوحيدان في جلب الكتاب الينا " .
واقترح عليه عبد الرحيم احمد بك أن يشيع انه تريد تحصيل شهادة الدكتوراه في
علم الحقوق أو شهادة من مدرسة العلوم السياسية لتدفع بذلك ما تجاسر بعض الناس
علي النصح به من عودته.
ثم طلب الخديوي من كامل في نفس العام أن يعود إلي مصر، فأرسل كامل رسالة
لصديقه محمد فؤاد سليم يقول له فيها إن الخديوي عباس لم يعد يرسل له المال
الكافي لكنه مصمم علي عدم الرجوع ويطلب من أصدقائه في مصر من أجل
الوطن أن يمدوه بالمال.. واضطر كامل للعودة في 9 يناير 1896 ولم يقابله
الخديوي بل وتجاهل التماساته في طلب المقابلة.
واصل حملته السياسية والدعائية ضد الاحتلال البريطاني، وسافر إلي برلين وأصبح
اسمه من الأسماء المصرية اللامعة في أوربا، وتعرَّف على الصحفية الفرنسية
الشهيرة "جولييت آدم"، التي فتحت صفحات مجلتها "لانوفيل ريفو" ليكتب
فيها، وقدمته لكبار الشخصيات الفرنسية؛ فألقى بعض المحاضرات في عدد من
المحافل الفرنسية، وزار العديد من الدول الأوربية الأخرى، لإلقاء الخطب وكتابة
مقالات في الجرائد لتدعيم القضية المصرية. كما قام بزيارة القسطنطينية لوجود
صراعات عديدة مع حاشية السلطان حيث تم منحه لقب باشا.
نشر مقالاته في صحف عديدة أهمها "المؤيد" التي كانت وثيقة الصلة بالخديوي
عباس الثاني. لكنها أبدت نوعًا من الفتور في نشر بعض مقالاته بعد فتور علاقاته
مع الخديوي. وفى 2 يناير 1900 نجح في إصدار جريدة "اللواء" التي انطلق
منها للدفاع عن قضيته.
وفي هذا الصدد يؤكد المؤرخ لمعي المطيعي أن مصطفي كامل كان يجاري الخديوي
بسبب علاقته به في عدد من المواقف كموقفه من الثورة العرابية ومن الدولة العثمانية
ومن فرنسا، حتى إن موقفه من حركة تحرير المرأة وهجومه علي قاسم أمين كان حسب
تعبير سعد زغلول في مذكراته"تقربا إلي الباب العالي ونفاقا لذوي الأفكار المتأخرة".
وقد زاوج كامل بين النزعة الدينية والنزعة الوطنية وهذا ما أبعده عن احمد لطفي
السيد بل وشن عليه حملة عام 1907 عندما أنشأ جريدته "الجريدة" واشتم فيها
رائحة العلمانية التي كان يرى أنها غير صالحة لإصلاح الأمة في ذلك الزمان.
في عام 1905م اشتد به المرض وبعد عام وقعت حادثة "دنشواي" الشهيرة،
فقطع علاجه في باريس، وسافر إلى لندن، وكتب مجموعة من المقالات العنيفة
ضد الاحتلال لكشف بشاعة الحادثة والأفعال التي اقترفها البريطانيون ، والتقى
هناك بالسير "كامبل باترمان" رئيس الوزراء البريطاني، الذي عرض عليه تشكيل
الوزارة، ولكنه رفض هذا العرض.
دعوته لإنشاء الجامعة
دنشواي
أثناء وجوده ببريطانيا للدفاع عن القضية المصرية والتنديد بوحشية الإنجليز
بعد مذبحة دنشواي، علم كامل أن لجنة مصرية تأسست للقيام باكتتاب عام
لدعوته إلى حفل كبير وإهدائه هدية قيمة تقديرا لدوره في خدمة البلاد، فرفض
الفكرة باعتبار أن ما يقوم به من عمل إنما هو واجب وطني لا يصح أن يكافأ
عليه، وخير من ذلك أن تقوم هذه اللجنة "بدعوة الأمة كلها، وطرق باب كل
مصري لتأسيس جامعة أهلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وأن
كل قرش يزيد عن حاجة المصري ولا ينفقه في سبيل التعليم هو ضائع سدى،
والأمة محرومة منه بغير حق".
وأرسل كامل برسالة إلى الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد يدعوه إلى فتح
باب التبرع للمشروع، وأعلن مبادرته إلى الاكتتاب بخمسمائة جنيه لمشروع إنشاء
هذه الجامعة، فنشرت الجريدة رسالة الزعيم في عددها الصادر بتاريخ 30
من سبتمبر 1906م.
ولم تكد الجريدة تنشر الرسالة حتى توالت خطابات التأييد للمشروع من جانب
أعيان الدولة، وسارع البعض بالاكتتاب والتبرع، ونشرت الجريدة قائمة بأسماء
المتبرعين، وكان في مقدمتهم حسن بك جمجوم ، وسعد زغلول وقاسم أمين .
غير أن عملية الاكتتاب لم تكن منظمة، فاقترحت الجريدة على مصطفى كامل
أن ينظم المشروع، وتقوم لجنة لهذا الغرض تتولى أمره وتشرف عليه من
المكتتبين في المشروع، فوافق الزعيم ودعا المكتتبين للاجتماع لبحث هذا الشأن،
واختيار اللجنة الأساسية، وانتخاب رئيس لها من كبار المصريين من ذوي الكلمة
المسموعة حتى يضمن للمشروع أسباب النجاح والاستقرار.
وأتمت اللجنة عملها وتم إنشاء الجامعة المصرية التي رأسها الملك فؤاد الأول.
" أبوالفدا " في الحزب الوطني
عندما أراد الخديوي عباس الثاني أن يستقل بالسلطة عن سيطرة الإنجليز، بدأ في
تأليف لجنة سرية للاتصال بالوطنيين المصريين عام 1895م من أجل الدعاية
لقضية استقلال مصر، وقد عُرفت باسم "جمعية أحباء الوطن السرية".
والتقى مصطفى كامل وأحمد لطفي السيد وعدد من الوطنيين بمنزل محمد فريد،
وتم تأليف "جمعية الحزب الوطني" كجمعية سرية رئيسها الخديوي عباس،
واتخذ أعضاء الجمعية أسماء مستعارة لهم، فكان الاسم المستعار للخديوي:
"الشيخ"، أما الاسم المستعار لمصطفى كامل فهو: "أبو الفدا".
وفي أوائل ديسمبر 1907 وقبل وفاته بـ 100 يوم دعا إلي تأسيس الحزب
الوطني، وانعقدت الجمعية العمومية لأول مرة في فناء دار اللواء وخرج مصطفي
كامل بالرغم من مرضه وخطب قائلا: " إننا لسنا حزبًا سياسيا فقط، نحن قبل
كل شيء حزب حياة للأمة، إنكم أنتم قوتي وساعدي بصفتكم من خير أمة أوقفت
لخدمتها حياتي وقواي، وعقلي وقلبي وقلمي ولساني وصحتي".
بعد هذه الخطبة التي أطلقوا عليها "خطبة الوداع"، تأسس الحزب الوطني الذي
تألف برنامجه السياسي من عدة مواد أهمها: المطالبة باستقلال مصر، كما أقرته
معاهدة لندن 1840م، وإيجاد دستور يكفل الرقابة البرلمانية على الحكومة وأعمالها،
ونشر التعليم، وبث الشعور الوطني.
رأيه في الخلافة والاحتلال
في عام 1898م ظهر أول كتاب سياسي لمصطفي كامل بعنوان
"كتاب المسألة الشرقية"، وهو من الكتب الهامة في تاريخ السياسة المصرية.
مصطفى كامل
ويرى مصطفى كامل في الكتاب " أن بقاء الدولة العلية ضروري للجنس البشري،
وأن في بقاء سلطاتها سلامة أمم الغرب وأمم الشرق، وقد أحس الكثيرون من
رجال السياسة و الإعلام أن بقاء الدولة العلية أمر لازم للتوازن العام وأن زوالها
لا قدر الله مجلبة للأخطار ومشعلة لنار يمتد لهيبها بالأرض شرقًا وغربًا، وشمالا
وجنوبًا، وأن هدم هذه المملكة القائمة بأمر الإسلام يكون داعية لثورة عامة بين
المسلمين وحرب دموية لا تعد بعدها الحروب الصليبية إلا معارك صبيانية،
وأن الذين يدعون لخير النصرانية في الشرق يعلمون قبل كل إنسان أن تقسيم
الدولة العلية أو حلها يكون الضربة القاضية على مسيحي الشرق عمومًا قبل مسلميه،
فقد أجمع العقلاء البصيرون بعواقب الأمور على أن دولة آل عثمان لا تزول من
الوجود إلا ودماء المسلمين تجري كالأنهار والبحار في كل واد".
ويضيف: " قد علمت إنجلترا أن احتلالها لمصر كان ولا يزال سببًا للعداوة بينها
وبين الدول العلية وأن المملكة العثمانية لا تقبل مطلقًا الاتفاق مع إنجلترا على
بقائها في مصر، ولذلك رأت إنجلترا أن بقاء السلطنة العثمانية يكون عقبة أبدية
في طريقها ومنشأ للمشاكل والعقبات في سبيل امتلاكها مصر، وأن خير وسيلة
تضمن لها البقاء في مصر وبقاء يدها على وادي النيل هي هدم السلطنة العثمانية،
ونقل الخلافة العثمانية إلى أيدي رجال يكونون تحت وصاية إنجلترا، ويكون آلة
في أيديهم ولذلك أخرج الإنجليز مشروع الخلافة العربية مؤملين به استمالة العرب
لهم وقيامهم بالعصيان في وجه الدولة العلية، ولذلك أيضا كنت تري الإنجليز
ينشرون في جرائدهم أيام الحوادث الأرمينية مشروع تقسيم الدولة العلية ـ حماها الله
ـ جاعلين لأنفسهم من الأملاك المحروسة مصر وبلاد العرب أي السلطة العامة على المسلمين".
الرحيل
اشتد المرض علي الزعيم الذي جاب الأقطار مدافعا عن قضية بلاده غير عابىء
بالمرض، فتوافد الناس لزيارته وأخذ يحادث أهله عن آماله وأشجانه حتي دمعت
عيناه فبكي الحاضرون فقال: "لا تبكوا إني لم أعرف البكاء يومًا علي نفسي،
وإذ بكيت اليوم فإنما أبكي لمصر المسكينة".
وفي الثامن من فبراير قبل وفاته بيومين زاره الخديوي عباس حلمي الثاني، وأخذ
يهون عليه فطلب منه الزعيم أن يعطف علي الحزب الوطني لأنه أمل مصر
فطمأنه الخديوي. وزاره أمير الشعراء أحمد شوقي فقال له:
"سوف ترثيني يا شوقي.. أجل... أليس كذلك؟.. فصمت شوقي ولم يجب.
وفي العاشر من فبراير 1908 رحل الزعيم مصطفي كامل ورثاه شوقي قائلا:
المشـــرقــــان علــيك ينتحــبان .. قاصـيهـما في مــأتم والـــداني
يتســـاءلون أبــالسلال قضيــت .. أم بالقلب أم هل مت بالسرطان
الله يشهــد أن موتــك بالحــــجا .. والجـــد والإقـــدام والعرفـــان
دقـــات قلــب المــرء قائــلة لـه .. إن الحيــــاة دقائـــق وثـــواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرهـا .. فــالذكـــر للإنسان عمــر ثاني
ولقد نظرتك والردى بك محدق .. والــداء مــلء معالم الجثــمان
فهششت لي حتى كأنك عائـدي .. وأنـــا الــذي هد السقــام كياني
وجعلت تسألني الرثاء .. فهاكه .. من أدمعي وسرائري وجناني
لولا مغالبة الشجون لخاطري .. لنظمت فيك يتيمة الأزمان